هذا الموضوع واحد من عدة مواضيع قديمة كنت أعددتها للنشر عن الحقبة الستالينية، وهي مواضيع موثقة من الأرشيفات السرية السوفيتية التي فتحت للجمهور وخاصة (الأرشيف المركزي للجيش السوفيتي)، ووضعتها على الرف لاعتقادي الخاطئ أن الموضوع "قٌتل" بحثاً وتمحيصاً. أعتقد أننا إذا أردنا السير إلى الأمام دون أن نلوي أعناقنا، فعلينا القطع مع الزوايا المظلمة من الماضي (وليس نسيان الماضي برمته)، وخاصة مع القضايا النظرية والممارسات العملية للتجربة السوفيتية بأفقها الستاليني الشمولي. إن ثورة اوكتوبر 1917 وقيام الإتحاد السوفيتي غيّرا وقلبا العالم القديم وأطلقا الجنّي من القمقم، و لا أحد يستطيع أن يحذف بجرّة قلم ما قدمته ثورة اوكتوبر وبلاد السوفييت للبشرية من أمل ودعم وعزيمة جبّارة للتقدم باتجاه إنشاء عالم أكثر عدالة (كما كنا نعتقد!) على مدى سبعين عاما، ولكننا الآن وبعد انهيار التجربة الاشتراكية السوفيتية ومعسكرها الشرق أوروبي ومقلديها في "العوالم الثالثة"، نستطلع الأسباب التي أدت إلى ذلك نقدياً وديمقراطياً ونتلمس النتائج، لنمضي إلى الأمام في عالم نستغني فيه وإلى الأبد عن الشعارات الخشبية، في سبيل الحرية السياسية بأفقها الليبرالي الحقيقي، المدخل الوحيد للإنفكاك من عبودية الاستبداد الروحي والعقلي.
في هذه المقالة سأتعرض لأحد فصول "اللاطهر" الستاليني بمنطقه في التعامل مع دولة صغيرة وشعب صغير مسالم وجار للإتحاد السوفيتي هي فنلندا.
كانت فنلندا حتى قيام ثورة اوكتوبر في روسيا 1917 مستعمرة وخاضعة للحكم الروسي القيصري، وبعد الثورة مباشرة وقع لينين عام 1918 مرسوم استقلال فنلندا، لتصبح دولة مستقلة صديقة للدولة السوفيتية مع أفضل العلاقات الاقتصادية، هذا ما فعله "المهاتما" لينين مطبقا بشكل عملي حق الشعوب في تقرير مصيرها، قبل أن يأتي ليل "ستالين" المظلم بالنسبة لحل المسألة القومية في الإتحاد السوفيتي.
في 28 آب- أغسطس 1939 في موسكو وقع الإتحاد السوفيتي وألمانيا (النازية) معاهدة عدم اعتداء مدتها عشرة أعوام، وقع المعاهدة وزيرا الخارجية مولوتوف وريبنتروب، وحضر حفل التوقيع ستالين شخصيا كما توضح الصورة سروره بالحدث.
ولكن معاهدة عدم الاعتداء المذكورة كان لها ملحق سري للغاية (بروتوكول) فيما يلي ترجمة نصه الكاملة:
البروتوكول السري الإضافي لمعاهدة عدم الاعتداء بين الإتحاد السوفيتي وألمانيا الموقعة بتاريخ 28 آب- أغسطس 1939
بمناسبة توقيع معاهدة عدم الاعتداء بين ألمانيا وإتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية، فإن ممثلي الطرفين الموقعين على المعاهدة قد بحثوا خلال جلسات بالغة السرية موضوع تحديد مناطق النفوذ بينهما في منطقة شرق أوروبا، وتوصلوا إلى الاتفاق التالي:
1- عند حدوث تغييرات حدودية وسياسية في المناطق التابعة لدول حوض البلطيق (فنلندا- لاتفيا- ليتوانيا- استونيا)، فإن الحدود الشمالية لليتوانيا تعتبر الخط الفاصل بين منطقتي نفوذ الإتحاد السوفيتي وألمانيا، مع اعتراف الطرفين بمصالح ليتوانيا في منطقة "فيلنو".
2- عند حدوث تغييرات حدودية وسياسية في المناطق التابعة لدولة بولندا، فإن منطقتي نفوذ الإتحاد السوفيتي وألمانيا تتحدد بشكل تقريبي عند خطوط أنهار "ناريف"، "فيسلا"، "سان"*.
إنّ المصير النهائي لبقاء بولندا كدولة مستقلة ضمن حدودها الحالية سيتحدد خلال مسير التطورات السياسية المستقبلية، وستحل الحكومتان هذه المسألة بأية حال عبر الإتفاق الودي بينهما.
3- بخصوص جنوب شرق أوروبا، فإن الطرف السوفيتي أبدى اهتمامه البالغ بمنطقة "بيسارابيا"**، أما الطرف الألماني فثبّت عدم اهتمامه السياسي نهائياً بهذه المنطقة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* أي أن ستالين أعطى الضوء الأخضر لهتلر ليقضم بولندا وبقية أوروبا مقابل
استيلاء ستالين على دول البلطيق الأربع ومنطقة "بيسارابيا".
** منطقة "بيسارابيا" هي الآن منطقة ضمن جمهورية مولدوفا المستقلة (إحدى جمهوريات الإتحاد السوقيتي السابقة)، وقد استقلت "بيسارابيا" أيضا عن روسيا القيصرية عام 1918 وانضمت إلى رومانيا إلى أن احتلتها قوات الجيش الأحمر السوفيتي عام 1940 كنتيجة للبروتوكول السري لمعاهدة عدم الاعتداء بين الإتحاد السوفيتي وألمانيا.
***
في 30 تشرين الثاني- نوفمبر 1939 قامت حشود جرّارة قدّر عددها بمليون جندي سوفيتي بمهاجمة فنلندا مدعومين بالدبابات والطائرات وجنود مشاة البحرية، كان الموضوع محسوماً بالنسبة لستالين (مجرد نزهة لن تتجاوز 10-12 يوماً) الذي قرر غزو هذا البلد الصغير الجار المسالم إثر اتفاقه السري مع هتلر على اقتسام مناطق النفوذ في أوروبا، ولكن الشعب الفنلندي الذي لم يتعدى تعداده وقتها 3.5 مليون (أي مايوازي عدد سكان لينينغراد آنذاك)، كان مستعداً للحرب ومتوقعاً إياها، وقد قام الجنرال الفنلندي "مانيرغيم" بتحضير وبناء خط دفاعي على طول الجبهة مع الإتحاد السوفيتي بمساعدة من بريطانيا وفرنسا، محصّن ومجهّز (سيدخل تاريخ العلوم العسكرية فيما بعد باسم خط "مانيرغيم")، قام الجيش الفنلندي الصغير والمتطوعون من كافة فئات الشعب (ومن ضمنهم الشيوعيون الفنلنديون) بمقاومة الجيش الأحمر مقاومة باسلة وجرّعوهم الغصص
انتهت الحرب في 13 آذار- مارس 1940 (دامت 104 يوما)، وكانت خسائر الفنلنديين حوالي 25 ألف قتيل و 45 ألف جريح مع خسارة 40 ألف كم مربع من أراضيهم التي احتلها الإتحاد السوفيتي وضمها إليه بشكل نهائي، أما خسائر السوفييت فكانت حوالي 200 ألف قتيل و 350 ألف جريح و 6000 أسير، 650 طائرة و 2500 دبابة (منها 650 دمرت نهائيا)، وذلك حسب معطيات الأرشيف المركزي للجيش السوفيتي.
خسر الإتحاد السوفيتي الحرب الفنلندية عملياً وخاصة على الصعيد المعنوي، وأظهر لألمانيا (هتلر) وللغرب الرأسمالي مواضع ضعفه العسكرية، كانت حرباً بلا طائل شنّها ستالين إرضاءً لنزعته الاستعلائية الإمبراطورية المريضة (كقاطع طريق سابق في شبابه)، ضارباً عرض الحائط حتى بكون "لينين" هو الذي وقع على مرسوم استقلال فنلندا، ممرغاً سمعة الإتحاد السوفيتي بالتراب، وستظل أسرار تلك الحرب وتفاصيلها لسنوات طويلة عصية على الجمهور السوفيتي والعالمي تماما وبالغة السرية.
ما يعنيني أولاً وأخيراً من هذه الفصول إنما هو الكشف عن الجوانب المظلمة من الفكر الستاليني الأحادي الشمولي للقطع معه نهائيا، دون انحياز أو مستبقات عقائدية، مع الاستعداد دوماً لتقبل التكفير من الأضداد والنقائض في أي مسألة نختلف عليها، وكما كتب معلمي الراحل "هادي العلوي":
(العقيدة هي شر ما يملكه أهل العلم وهي الرقيب الداخلي الذي لا يقل سوءاً عن الرقيب الرسمي، والمسئولة عن تكوين الوجدان القمعي للأفراد ومصادرة حرية الضمير، وهي إذا كانت مفيدة لتحريك الجمهور في منعطف تأريخي معين يجب أن تبقى في منأى عن العقل الباحث لئلا تكون كما يقول الغزالي حجاباً يمنع من النظر إلى حقائق الأشياء).